يعرف معظم الناس في هذه الأيام أن الجسم يحتاج إلى رياضة و تمرين بهدف المحافظة عليه ، لكنهم يفترضون أن التفكير لا يحتاج إلى أي مجهود و بالتالي إلى أي تمرين0 فالمرء، كما يعتقدون، يفكر كما يتنفس0 لكننا جميعاً نشاهد من حولنا أمثلة عن التفكير المترهل و الكسول و الانفعالي و حتى انعدام التفكير0 أحياناً يبرر الناس كسل تفكيرهم بأن يخبروك باعتزاز أنهم "منفتحو الذهن"0 حسن أن يكون المرء منفتح الذهن و لكن ليس إلى حد الإنفلاش0
التفكير النقدي هو القدرة و الاستعداد لتقييم المزاعم و القيام بمحاكمات موضوعية على أساس أسباب حسنة الإسناد0 إنه القدرة على البحث عن عيوب في المحاججات و مقاومة المزاعم التي ليس لها برهان داعم0 فالتفكير النقدي إذا ليس مجرد تفكير سلبي0 إنه أيضاً يرعى القدرة على الخلق و البناء- على توليد تفسيرات ممكنة للنتائج و التفكير في التضمينات و تطبيق المعرفة الجديدة على مجال واسع من المشكلات الاجتماعية و الشخصية0 و لا يمكننا فصل التفكير النقدي عن التفكير الخلاّق ، لأنه فقط عندما تطرح السؤال "ما هو" تستطيع أن تبدأ التخيل عما يمكن " أن يكون"0
لنأخذ مثالاً عما أقصد0 الكثير من الناس عندما يواجهون عقبة لتوقعاتهم يضيّقون أفقهم بدل أن يوسّعوه0 فمثلاً ثمة شخص يدعى أحمد كان كل حلمه في الحياة أن يصبح طبيباً بيطرياً، فقد كان شغفه بالحيوانات أسطورياً : ففي عمر 3 سنوات لم يكن يسمح لأي كان أن يقتل نملة بوجوده0 لكن أحمد لم يُقبَل في كلية البيطرة التي أرادها، فكان ردّ فعله الهلع و اليأس قائلاً : " لقد دُمرت حياتي برمتها" في البداية لم يفكر أحمد بشكل نقدي فجزأ احتمالاته إلى اثنين فقط: أن يكون طبيباً بيطرياً أو لا يكون شيئاً0 و لكن بتفحص هذا الافتراض و لدى التفكير بشكل خلاق حول كافة المهن الممكنة التي يمكن أن يستثمر فيها شغفه بالحيوان ، أدرك بأن خياراته لا تحد: فقد يكون مالكاً لمحل بيع للحيوانات المنزلية و قد يكون مدرباً للحيوانات أو مصصماً لحدائق الحيوان أو أيكولوجياً أو مصوراً للحياة البرية إلخ00
هل التفكير النقدي صعب؟ إنه ليس كذلك حالما تتوفر لك الحيوية الروحية العالية و بضعة مهارات0 يرى الباحثون أن الناس لا يستخدمون مثل هذه المهارات حتى بلوغهم منتصف العشرينات من العمر أو بعد أن يكونوا قد قضوا عدة سنوات في التعليم العالي- هذا إذا استخدموها0 لكن ذلك لا يعني أن الناس لا يستطيعون التفكير بشكل نقدي، فحتى الأطفال الصغار غالباً ما يقومون بذلك0 ثمة تلميذ في الصف الرابع أجاب عندما أُخبر بأن قدماء اليونان كانوا مهداً للديمقراطية : " و لكن ماذا عن النساء و العبيد؟الذين لا يحق لهم التصويت و ليس لديهم حقوق؟ هل كانت اليونان ديمقراطية بالنسبة إليهم؟ هذا مثال لتفكير انتقادي0 و هو كذلك تفكير خلاق ، فحين تُخضع الافتراض الأساسي ، و هو أن اليونان كانت ديمقراطية لكل شخص ، تستطيع أن تبدأ بتخيل التفسيرات الأخرى للحضارة اليونانية القديمة0
لكننا نوافق الأعداد المتزايدة من المربين و المثقفين و الاختصاصيين النفسيين الذين يعتقدون بأن نظام التعليم في بلدنا، و بالمناسبة في بلدان أخرى كثيرة ، غير كفؤ لأنه لا يشجع على التفكير بشكل نقدي و خلاق0 يقول هؤلاء النقاد أنه في الغالب الأعم أن كلا من المعلمين و الطلاب ينظرون إلى العقل كسلة لتخزين "الإجابات الصحيحة" أو كإسفنجه "لامتصاص المعرفة" 0 بيد أن العقل ليس سلة و لا هو اسفنجة0 فالتذكر و التفكير و الفهم جميعها عمليات فعالة و هي تحتاج إلى المحاكمة و الاختيار و التبصر في البرهان0لسوء الحظ ، إن الأطفال الذين يتحدون الرأي السائد في البيت أو في المدرسة ينعتون غالباً "بالمتمردين"0 و كنتيجة ، كما يقول هؤلاء النقاد ، فإن الكثير من طلاب المدارس الثانوية أو طلاب الجامعة لا يستطيعون صياغة محاججة منطقية أو يدركون الحقيقة في الإعلانات و الدعايات التي تلعب على العواطف0 و هم لا يعرفون كيف يتوصلون إلى حلول متخيلة لمشكلاتهم0 باختصار، لا يستطيعون استخدام رؤوسهم0
يتضمن التفكير النقدي مجموعة من المهارات التي يمكن تطبيقها على أي موضوع تدرسه أو مشكلة تواجهها0 لكن لذلك صلة بعلم النفس لأسباب ثلاثة: الأول ، هو أن ميدان علم النفس يتضمن دراسة التفكير و حل المشكلات و الإبداع و الفضولية و المكونات الأخرى لهذه العملية، و بالتالي فإنه بطبيعته يرعى التفكير النقدي و الخلاق0 في إحدى الدراسات تحسن طلاب علم النفس بشكل جوهري في قدرتهم على المحاكمة في حوادث الحياة اليومية، في حين لم يظهر طلاب الكيمياء أي تحسن0 الثاني، يولّد ميدان علم النفس الكثير من النتائج المتنافسة حول موضوعات ذات علاقة مباشرة بالأمور الشخصية و الاجتماعية ، و يحتاج الناس إلى القدرة على تقييم هذه النتائج و تضميناتها0 الثالث ، لقد خلقت شهية العامة للمعلومات النفسية سوقاً ضخماً ، و هذا ما دعاه ر0 د0 روزن " اللغو النفسي psychobabble " و هو علم مزيف و دجل مغطى بقشرة من اللغة النفسية0 فالتفكير النقدي يمكنه أن يساعدك على فصل علم النفس عن اللغو النفسي0
جزئياً ، إن تعلم التفكير بشكل نقدي يعني إتباع القواعد التالية للمنطق0 بيد أن هناك أيضاً مزيداً من المرشدات العامة الأخرى0 و سنأتي هنا على ذكر ثمانية قواعد أساسية :
1. اطرح أسئلة و كن على استعداد للاندهاش : ما هو نوع الأسئلة الذي أكثر ما يجعل الوالدين ساخطين من أولادهما الصغار؟ " لمَ السماء زرقاء؟ " لماذا لا تقع الطائرة؟ " " لمَ لا تمتلك البقرة أجنحة؟ " 0 لسوء الحظ يميل الأطفال مع نموهم إلى التوقف عن طرح أسئلة " لماذا؟ "
إن الآلية المحفزة على التفكير الخلاق هي الاستعداد للفضولية و الدهشة و التساؤل0 فالسؤال " ما المشكلة أو الخطأ هنا؟ و / أو لماذا الأمر على هذا النحو ؟ و كيف حدث أن صار على هذا النحو؟ يقود إلى التعرف على المشكلات و التحديات " 0 بعض المهن تعلم المتدربين على التفكير بهذه الطريقة0 إذ يُعلَّم المهندسون الصناعيون على التجول في الشركة و التساؤل عن أي أمر، حتى الإجراءات التي اتّبعت لسنوات عديدة تتعرض لامتحان السؤال0 لكن مهناً أخرى تفضل أن تقدم للمتدربين " حكمة جاهزة متلقاة " و تمنع النقد0
2. حدد المشكلة: بعد أن تثير السؤال ، فإن الخطوة التالية هي تحديد المسائل أو المشكلات بتعابير واضحة و ملموسة0 " ما الذي يجعل الناس سعداء؟ سؤال ظريف في أحلام منتصف الليل ، لكنه لن يؤدي إلى أجوبة ما لم تحدد ما تعنيه من مفهوم " السعادة "0 عرّف أحد علماء النفس " الزواج السعيد " بأنه الزواج الذي دام عشر سنوات و أثمر عن طفلين " فهل توافق على هذا التعريف؟
إن الصياغة غير الملائمة للسؤال يمكن أن تفضي إلى أجوبة مضللة أو ناقصة0 فعلى سبيل المثال ، يفترض السؤال " هل يمكن للحيوانات أن تتعلم اللغة ؟ " أن " اللغة " قدرة أو موهبة " ينطبق عليها مبدأ الكل أو لاشيء ، الأمر الذي يتيح فقط إجابتين ممكنتين هما نعم أو لا0 لكن وضع السؤال بشكل آخر مثل - " أي مناحي من اللغة يمكن لبعض الحيوانات أن تكتسبها؟ " – يأخذ بالاعتبار حقيقة أن اللغة تتطلب قدرات كثيرة مختلفة ، كما أنه يقرّ بأن ثمة تباينات بين الأنواع و يفتح مجالاً من الأجوبة المحتملة0
3. تفحص الدليل: هل سمعت شخصاً ما في ذروة مناقشة يصرخ " أنا أعرف فقط إنها الحقيقة ، مهما يكن ما تقول " أو " هذا رأيي و لن يغيره شيء " أو " إذا لم تفهم موقفي ، فلن أتمكن من توضيحه "0 إن قبول النتيجة بلا برهان أو التوقع من الآخرين أن يفعلوا ذلك هو علامة أكيدة على التفكير غير النقدي ( أو على انعدام التفكير كلياً ) ؛ إنه ينطوي على أن كل الآراء متساوية ، و في الواقع هي ليست كذلك0 المفكر بشكل نقدي يسأل :" ما الدليل الذي يؤيد أو يدحض هذه المحاججة و نقيضها؟ ما مدى الاعتمادية على هذا الدليل؟ و إذا لم يكن هناك إمكانية لتحري الاعتمادية على الدليل، فإن المفكر نقدياً يُعمل فكره فيما إذا كان مصدر هذا الدليل ذو اعتمادية في السابق0
لقد جرى قبول بعض الاعتقادات الشعبية على نطاق واسع على أساس دليل ضعيف أو حتى دون دليل البتة 0 فمثلاً ، يعتقد بعض الناس بأنه لأمر صحي من الناحية الجسدية و النفسية أن " ينفّسوا " عن غضبهم بأول شخص أو حيوان أو قطعة أثاث تقع في طريقهم0 في الواقع ، إن سنوات من البحث في مجالات مختلفة تقترح بأن التعبير عن الغضب أمر مفيد أحياناً و لكنه غالباً ليس كذلك0 إنه غالباً ما يجعل الغاضب أكثر غضباً ، كما تجعل الهدف الذي ينصب عليه الغضب يرد بشكل غاضب و يخفض من تقدير الشخص لذاته و يشجع العدوانية0 و رغم ذلك يستمر الاعتقاد بأن التعبير عن الغضب صحي دوماً رغم انعدام الدليل الذي يؤيد ذلك0
4. تحليل الافتراضات و التحيزات : يقيم الذين يفكرون بشكل نقدي الافتراضات و التحيزات حول كيفية سير الأمور إنهم يسألون كيف تؤثر هذه الافتراضات و التحيزات على المزاعم و الاستنتاجات و ذلك في الكتب التي يقرؤونها و في الخطب السياسية التي يسمعونها و في برامج الأخبار التي يشاهدونها و الإعلانات التي تنهال على رؤوسهم يومياً0هاكم مثالاً : يعلن منتج لمسكن ألم أن المشافي تفضل منتجه على باقي المنتجات جميعاً0 الافتراض الطبيعي – أي الافتراض الذي يريد المنتج منك أن تتبناه – هو أن هذا المنتج أفضل من جميع المنتجات الأخرى0 و لكن في الحقيقة تفضل المشافي هذا المنتج لأنها حصلت عل حسم أكبر عليه من المنتجات المنافسة الأخرى0